الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
واختلف في توجيه هذا الجواب فقال شيخ الإسلام: لعل الله تعالى حين جعل توبة عبدة العجل بقتلهم أنفسهم وكان الكلام الذي أطمع السبعين في الرؤية في ذلك ضمن موسى عليه السلام دعاءه التخفيف والتيسير حيث قال: {واكتب لَنَا في هذه الدنيا حَسَنَةً} أي خصلة حسنة عارية عن المشقة والشدة فإن في القتل من العذاب الشديد ما لا يخفى فأجابه سبحانه بأن عذابي أصيب به من أشاء وقومك ممن تناولته مشيئتي ولذلك جعلت توبتهم مشوبة بالعذاب الدنيوي ورحمتي وسعت كل شيء وقد نال قومك نصيب منها في ضمن العذاب الدنيوي وسأكتب الرحمة خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي كما دعوت لمن صفتهم كيت وكيت لا لقومك لأنهم ليسوا كذلك فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة العذاب، وعلى هذا فموسى عليه السلام لم يستجب له سؤاله في قومه ومن الله تعالى بما سأله على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما أجيب بما ذكر قال: أتيتك يا رب بوفد من بني إسرائيل فكانت وفادتنا لغيرنا.وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعا موسى ربه سبحانه فجعل دعاءه لمن آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام واتبعه، وفي رواية أخرى رواها جمع عنه سأل موسى ربه مسألة فاعطاها محمدًا صلى الله عليه وسلم وتلا الآية، لكن لا يخفى أن ما قرره هذا الشيخ بعيد.وقال صاحب الكشف في ذلك: كأنه لما سأل موسى عليه السلام لنفسه ولقومه خير الدارين أجيب بأن عذابي لغير التائبين ان شئت ورحمتي الدنيوية تعم التائب وغيره وأما الجمع بين الرحمتين فهو للمستعدين فإن تاب من دعوت لهم وثبتوا كأعقابهم نالتهم الرحمة الخاصة الجامعة وأثر فيهم دعاؤك وإن داوموا على ما هم فيه بعدوا عن القبول، والغرض ترغيبهم على الثبات على التوبة والعمل الصالح وتحذيرهم عن المعاودة عما فرط منهم مع التخلص إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم والحث على اتباعه أحسن تخلص وحث يحير الألباب ويبدي للمتأمل فيه العجب العجاب، وإلى بعض هذا يشير كلام الزمخشري.وقال العلامة الطيبي في توجيهه: إن هذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وقوله سبحانه: {عَذَابِى} إلخ كالتمهيد للجواب، والجواب {فَسَأَكْتُبُهَا} الخ، وذلك أن موسى عليه السلام طلب الغفران والرحمة والحسنة في الدارين لنفسه ولأمته خاصة بقوله: {واكتب لَنَا} وعلله بقوله: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} فأجابه الرب سبحانه بأن تقييدك المطلق ليس من الحكمة فإن عذابي من شأنه أنه تابع لمشيئتي فأمتك لو تعرضوا لما اقتضت الحكمة تعذيب من باشره لا ينفعهم دعاؤك لهم وإن رحمتي من شأنها أن تعم في الدنيا الخلق صالحهم وطالحهم مؤمنهم وكافرهم فالحسنة الدنيوية عامة فلا تختص بأمتك فتخصيصها تحجير للواسع وأما الحسنة الأخروية فهي للموصوفين بكذا وكذا، وجعل {فَسَأَكْتُبُهَا} كالقول بالموجب لأنه عليه السلام طلب ما طلب وجعل العلة ما جعل فضم الله تعالى ما ضم، يعني أن الذي يوجب اختصاص الحسنتين معا هذه الصفات المتعددة لا التوبة المجردة، ثم ذكر أن ترتيب هذا على ما قبله بالفاء على منوال قوله تعالى جوابًا عن قول إبراهيم عليه السلام: {وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] وأيد هذا التقرير بما روي عن الحسن وقتادة وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة. اهـ. ما أريد منه، وما ذكره من حديث التحجر في القلب منه شيء فإن الظاهر أن ما في دعاء موسى عليه السلام ليس منه وإنما التحجر في مثل ما أخرجه أحمد.وأبو داود عن جندب عن عبد الله البجلي قال: «جاء اعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها وصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نادى اللهم ارحمني ومحمدًا ولا تشرك في رحمتنا أحدًا فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لقد حظرت رحمة واسعة إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وانسها وبهائمها وعنده تسعة وتسعون».وأنا أقول: قد يقال: إن موسى عليه السلام إنما طلب على أبلغ وجه المغفرة والرحمة الدنيوية والأخروية له ولقومه وتعليل ذلك بالتوبة مما لا شك في صحته، ولا يفهم من كلامه عليه السلام أنه طلب للقوم كيف كانوا وفي أي حالة وجدوا وعلى أي طريقة سلكوا فإن ذلك مما لا يكاد يقع ممن له أدنى معرفة بربه فضلًا عن مثله عليه السلام، وإنما هذا الطلب لهم من حيث إنهم تائبون راجعون إليه عز شأنه، ولا يبعد أن يقال باستجابة دعائه بذلك بل هي أمر مقطوع به بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم؛ وكيف يشك في أنه غفر له ورحم وأوتي خير الدارين وهو هو وأما بالنسبة إلى قومه فالظاهر أن التائب منهم أوتي خير الآخرة لأن هذه التوبة إن كانت هي التوبة بالقتل فقد جاء عن الزهري أن الله تعالى أوحي إلى موسى بعد أن كان ما كان ما يحزنك؟ أما من قتل منكم فحي يرزق عندي وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو اسرائيل، وإن كانت غيرها فمن المعلوم أن التوبة تقبل بمقتضى الوعد المحتوم، وخير من قبلت توبته في الآخرة كثير، وأما خير الدنيا فقد نطقت الآيات بأن القوم غرقي فيه، ويكفي في ذلك قوله تعالى: {يا بنى إسرائيل اذكروا نِعْمَتِى التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47].وحينئذ فيمكم أن يقال في توجيه الجواب: أنه سبحانه لما رأى من موسى عليه السلام شدة القلق والاضطراب ولهذا بالغ في الدعاء خشية من طول غضبه تعالى على من يشفق عليه من ذلك سكن جل شأنه روعته وأجاب طلبته بأسلوب عجيب، وطريق بديع غريب فقال سبحانه له: {عَذَابِى} أي الذي تخشى أن تصيب بعض نباله التي أرميها بيد جلالي عن قسى إرادتي من دعوت له أصيب به من أشاء فلا يتعين قومك الذين تخشى عليهم ما تخشى لأن يكون غرضًا له بعد أن تابوا من الذنب وتركوا فعله {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} إنسانًا كان أو غيره مطيعًا كان أو غيره فما من شيء إلا وهو داخل فيها سابح في تيارها أو سايح في فيافيها بل ما من معذب إلا ويرشح عليه ما يرشح منها ولا أقل من أني لم أعذبه بأشد مما هو فيه مع قدرتي عليه فطب نفسا وقرعينا فدخول قومك في رحمة وسعت كل شيء ولم تضق عن شيء أمر لا شك فيه ولا شبهة تعتريه كيف وقد هادوا إلى ووفدوا على أفتري أني أضيق الواسع عليهم وأوجه نبال الخيبة إليهم وأردهم بخفى حنين فيرحع كل منهم صفر الكفين؟ لا أراني أفعل بل إني سأرحمهم وأذخب عنهم ما أهمهم وأكتب الحظ الأوفر من رحمتي لأخلافهم الذين يأتون آخر الزمان ويتصفون بما يرضيني ويقومون بأعباء ما يراد منهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الخ، ولعل تقديم وصف العذاب دون وصف الرحمة ليفرغ ذهنه عليه السلام مما يخاف منه مع أن في عكس هذا الترتيب ما يوجب انتشار النظم الكريم؛ ووصف أخلاقهم بما وصفوا به لاستنهاض همهم إلى الاتصاف بما يمكن اتصافهم به منه أو إلى الثبات عليه، ولم يصرح في الجواب بحصول السؤال بأن يقال: قد أوتيت سؤلك يا موسى مثلا اختيارًا لما هو أبلغ فيه، وهذا الذي ذكرناه وإن كان لا يخلو عن شيء إلا أنه أولى من كثير مما وقفنا عليه من كلام المفسرين وقد تقدم بعضه، وأقول بعد هذا كله: خير الاحتمالات ما تشهد له الآثار وإذا صح الحديث فهو مذهبي فتأمل.والسين في {سأكتبها} يحتمل أن تكون للتأكيد، ويحتمل أن تكون للاستقبال كما لا يخفي وجهه على ذوي الكمال. اهـ.
.قال القاسمي: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [156].{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي: أثبت لنا فيها خصلة حسنة، كالعافية والحياة الطيبة، والتوفيق للطاعة: {وَفِي الآخِرَةِ} أي: حسنة أيضًا، وهي المثوبة الحسنى والجنة.{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي: تبنا إليك. يقال: هاد إليه يهود، إذا رجع وتاب، فهو هائد. ولبعضهم:وقال آخر: قال أبو البقاء: المشهور ضم الهاء، وهو من هاد يهود إذا تاب.وقرئ بكسرها، من هاد يهيد إذا تحرك أو حرك، أي: حركنا إليك نفوسنا، وعلى القراءتين، يحتمل الوجهين، البناء للفاعل وللمفعول، بمعنى ملنا أو أمالنا غيرنا، أو حركنا أنفسنا، أو حركنا غيرنا، وذلك لاتحاد الصيغة وصحة المعنى، وإن اختلف التقدير.{قَالَ} استئناف وقع جوابًا عن سؤال ينساق إليه الكلام، كأنه قيل: فماذا قال تعالى في جواب دعاء موسى؟ فقيل قال: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} أي: تعذيبه من العصاة {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان المراد هنا، بدليل مقابلتها بالعذاب قبل، كما قابل الآية التي ذكرناها بقوله: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، والله أعلم.{فَسَأَكْتُبُهَا} أي: هذه الرحمة: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي: الكفر والشرك والفواحش {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي: يعطون زكاة أموالهم {وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا} أي: بكتابنا ورسولنا: {يُؤْمِنُونَ} أي: يصدقون.تنبيه:قال الجشمي: تدل الآية على حسن سؤال نعيم الدنيا، كما يحسن سؤال نعيم الآخرة، وتدل على أن الواجب على الداعي أن يقرن بدعائه التوبة والإخلاص، لذلك قالوا: {إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ}.وتدل على أنه تعالى ينعم على البر والفاجر، ويخص بالثواب المؤمن، فلذلك فصل، ومن تأمل هذا السؤال والجواب، عرف عظيم محل هذا البيان، لأنه عليه السلام، سأل نعيم الدنيا والدين عقيب الرجفة، فكان من الجواب أن العذاب خاصة يصاب به من يستحقه، فأما النعم فما كان من باب الدنيا يسع كل شيء يصح عليه التنعم، وما كان من باب الآخرة يكتب لمن له صفات ذكرها.وتدل على أن الرحمة لا تنال بمجرد الإيمان الذي هو التصديق، حتى ينضم إليه الطاعات، فيبطل قوله المرجئة. اهـ. .قال ابن عاشور: و{اكتُب} مستعار لمعنى العطاء المحقَق حصوله، المجدد مرة بعد مرة، لأن الذي يريد تحقيقَ عقد أو عدة، أو عطاء، وتعلّقه بالتجدد في المستقبل يكتب به في صحيفة، فلا يقبل النكران، ولا النقصان، ولا الرجوع، وتسمى تلك الكتابة عهدًا، ومنه ما كتبوه في صحيفة القطيعة، وما كتبوه من حلف ذي المجاز، قال الحارث بن حلزة:ولو كان العطاء أو التعاقد لمرة واحدة لم يحتج للكتابة، لأن الحوز أو التمكين مغن عن الكتابة، كما قال تعالى: {إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها} [البقرة: 282] فالمعنى: آتنا الحسنة تلو الحسنة في أزمان حياتنا وفي يوم القيامة، دل على هذا المعنى لفظ {اكتب} ولولاه لكان دعاء صادقًا باعطاء حسنة واحدة، فيحتاج إلى الاستعانة على العموم بقرينة الدعاء، فإن النكرة يراد بها العموم في سياق الدعاء كقول الحريري في المقامة الخامسة: أي كل ضر وليس المراد وقيتم ضرا معيّنا.والحسنة الحالة الحسنة، وهي: في الدنيا المرضية للناس، ولله تعالى، فتجمع خير الدنيا والدين، وفي الآخرة حالة الكمال، وقد تقدم بيانها في تفسير قوله تعالى: {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة} في سورة البقرة (201).وجملة: {إنا هدنا إليك} مسوقة مساق التعليل للطلب والاستجابة، ولذلك فصلت ولان موقع حرف التأكيد في أولها موقع الاهتمام، فيفيد التعليل والربط، ويغني غناء فاء السببية كما تقدم غير مرة.
|